لم يتبقَّ في ذاكرتي سوى؟ بقلم ريم رأفت

لم يتبقَ في ذاكرتي سوى فتات من الذكريات؛ مواقف حاولتُ فيها إثبات ذاتي، لكنها انتهت كمحاولاتٍ فاشلة، وعلاقات بذلتُ فيها كل جهدي، لأدرك في النهاية أنهم لم يكونوا لي، ولم أكن لهم.
 

ما زلت أبحث وأتجول بين مسارات الحياة، لكن بين حين وآخر، تعود إليّ ذكريات الوحدة؛ ذكريات خالية من المشاعر، كجسدٍ منهك بلا روح، يعبر الطرقات دون هدف.
 
ثم، أحيانًا، تلوح في ذاكرتي لحظات أخرى، لحظات مليئة بالدفء كأنها نقاط ضوء في الظلام.
 أستعيد ابتسامة عجوزٍ ساعدته ذات يوم؛ أذكر كيف كانت نظرته ممتنةً، وكأنه يرسل لي دعاءً صامتًا.
 أو طفلاً صغيرًا طمأنته حين شعر بالخوف من كلبٍ، رغم أنني أنا من كانت تلاحقها الكلاب طوال حياتي، لكنني تشجعت لأجله.

أحيانًا، تظهر لي سيدةٌ بالكاد أتذكر ملامحها، كنت أحمل حقيبتها الثقيلة، نسير معًا ونتبادل أطراف الحديث والضحكات، كأننا نعرف بعضنا منذ زمن. وتلك الطفلة التي لوّحت لي من نافذة الحافلة، فأرسلت لها قبلة، فردتها بقبلاتٍ متتالية، وكأننا نلعب لعبة سرية خاصة بنا.

ذكرياتي في المواصلات كانت تعبًا وإرهاقًا، لكنها أيضًا حملت لحظاتٍ استثنائية: مرة لرجلٍ يقرأ القرآن بصوتٍ عذب، يجعلني أشعر براحة لم أكن أعلم أنني أفتقدها، ومرة لرجلٍ آخر يدعونا للصلاة على النبي كل دقيقة، كأنه يحاول بسط السلام في القلوب المتعبة. وأتذكر أيضًا رجلاً غريبًا كان يُحدّثنا عن أصل القوانين، يُثري حديثنا بمعلوماتٍ جديدة، وكأننا في درس فلسفي وسط الحافلة.

 
أشعر بوجودي حين ترسل لي أمي رسائل مليئة بالدعوات والاهتمام، وأبتسم حين أرى أبي يحاول إخفاء قلقه عليّ بتلك الكلمات العفوية. 
أشعر بالدفء حين يشاركني إخوتي أفراحهم وأحزانهم، رغم المسافات التي تفرق بيننا أحيانًا.

أشعر بقيمة وجودي عندما تجدني صديقتي ملاذًا لحزنها، وحين يخصني أحدهم بالبوح رغم أن هناك الكثير حوله، ويقول لي، "لا أعرف لماذا، لكن لا أستطيع البوح بما في داخلي إلا لك."

في تلك اللحظات، تزداد محبتهم في قلبي، وأشعر أنني مميزة، وأنني بعمق قلبي جزء من عائلتي وجزء من قلوب من حولي. وبينما أتساءل إن كانت هذه اللحظات كافية لتكون مرسى لروحي، أجدني أبتسم؛ فربما يكفي أن أشعر للحظات أنني مهمة، وأن وجودي يحدث فرقًا، ليكون هذا الانتماء دليلاً على الحياة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم